الأربعاء، 31 أكتوبر 2012

نهاية الموسوعات الورقية . الكاتب : المجلة العربية




عاش الإنسان على ظهر هذه البسيطة مندهشاً من ظلمات الليل، وأضواء النهار.. مندهشاً من ارتجاجات الأرض، وبراكينها، وتنوعات مناخاتها البشرية.. مندهشاً من الغرائبيات، والاكتشافات، والشرور، والحروب، والوقائع إلى أن تهادت إليه فكرة الكتابة، أو على الأصح اهتدى إليها؛ لكنه ومن خلال بحثه الذي لا ينتهي كان يواجه الأسئلة باكتشافات جديدة؛ لأن عثوره على كنز الكتابة، والتوثيق راكم المعرفة لديه.
كان الإنسان في كل المنعطفات يتحمل الصدمة تلو الأخرى؛ إلا أن غريزته المسكونة بالمعرفة دعته للنظر إلى البعيد، حيث وقعت نظراته على اكتشاف الأسفار الموسوعية الضخمة التي وثقت للعلوم والآداب والتواريخ والملاحم والوقائع والأساطير والحروب والانتصارات والهزائم وهكذا إلى أن وصلنا اليوم عند ذلك الخبر الذي قرأه الناس جميعاً حين قررت إحدى الشركات -المعنية بإصدار دائرة المعارف البريطانية الشهيرة- إيقاف النسخة الورقية بعد 244 عاماً من الصدور المنتظم، ومرد ذلك كما أدلى مدير شركة الإصدار يعود إلى أن النسخ الإلكترونية تشكل ربحاً كبيراً للشركة وفي المقابل؛ فإن النسخة الورقية تلتهم تلك الأرباح؛ ما يعني أن النسخة الورقية أصبحت عبئاً على الشركة، ليس ذلك فحسب وإنما مكلفة جداً مقارنة بأرباح الشركات الأخرى التي لا تصدر موسوعاتها ورقياً مثل (ويكيبيديا)، ولا شك أن ذلك يعد خسارة كبيرة لذوي النظرة الكلاسيكية الذين اعتادوا على رؤية النسخة ورقياً، واعتادوا على شرائها، أو على الأصح تصلهم آلياً ودورياً إلى البيوت حتى أولئك الذين كانوا يراقبون إصدارها عن بعد شعروا بالحزن لتوقف هذه الموسوعة التي كانت تعمل على تزيين العالم المعرفي التوثيقي؛ ما يعني وكأن الأمر بدا وكأنه نهاية الموسوعة الورقية، وبداية موسوعة الفضاء المفتوح.
ولعل القائمين على الشركة استوعبوا لعبة الزمن؛ فانتبهوا، وعرفوا أنهم دخلوا عصراً جديداً، وأن المعطى التكنولوجي والرقمي قفز بالعالم إلى عصر مختلف، وهذا مالا يمكن استيعابه في بلداننا، وهكذا تبدو التجارب الأوروبية أكثر عمقاً من تجارب شعوب كثيرة؛ حيث تظل آفاقهم أكثر رحابة، ولا يتمسكون بالقديم تعبيراً عن عاطفة، وإنما تعبيراً عن وعي وإدراك، فلو أحسنت الحكومات العربية لدفعت بالكثير من الكتاب والخبراء والمثقفين إلى تفعيل المراكز البحثية المهتمة بدوائر المعلومات الموسوعية، لأن في ذلك تلبية لحاجة الباحثين والكتاب والمهتمين وهو ما يعني استمرار الحياة العلمية وتدفقها وفق بنائها العلمي والتصاعدي حيث يمكننا معرفة مدى حاجة المنتفعين بدوائر المعارف الموسوعية، وبالتالي مدى استعداد المجتمع لتقبل الدخول إلى عصر جديد؛ فنستطيع –من أجل إحداث نهضة حقيقية- السير بخطوات متسارعة في تقديم المعلومة الصحيحة سواء كانت ورقية، أو إلكترونية رقمية عبر تقديم العمل الموسوعي بالطريقتين مع الاشتغال على تغليب التوثيق الإلكتروني وتنويع وسائل الاتصال للوصول الى أهداف سريعة وناجزة، وعلينا ألا ننسى أن العلوم والمعارف والثقافات في اتساع دائم، وهو الأمر الذي يتطلب منا مراقبة ذلك للعمل دون اتساع الفجوة التي تتسع كل يوم بمقدار كبير لا أحد يستطيع قياسه أو تتبعه فيما نستطيع عمل ذلك لو أردنا.
بداية السلم
يقول الباحث والكاتب عبدالباري طاهر: «عرف العالم إصدارات موسوعية عملاقة وإصدارات خدمت العالم في نقلها للمعلومة، ومن ذلك مشروع الكتاب الأمريكي الشهير والموسوعة البريطانية؛ لكن القائمين على مثل هذه المشاريع الكبيرة يعرفون كيف يديرونها اليوم، فهم ينظرون إلى الفائدة الحضارية، والمعلوماتية، ويرون بأن شيوع النسخ الإلكترونية والرقمية يعد عاملاً من عوامل التواصل والازدهار لأن إخراج ذلك على هذا المستوى اللامحدود يتيح للقراء والمطلعين والعارفين العمل على إثراء المعلومات وإغنائها، أما في البلدان العربية للأسف مازلنا في بداية السلم بمعنى أننا لم نتقدم؛ ففي مصر مثلاً تم إصدار الموسوعة العربية أثناء حكم عبدالناصر، ولا تزال هذه النسخة قائمة بأخطائها. هناك –أيضاً- موسوعة سلطان بن عبدالعزيز، وهي موسوعة مهمة جداً استفادت من المعطى في الدوائر العالمية وخرجت بقالب بديع كأنها تصطف مع الكتاب الأمريكي ودائرة المعارف البريطانية؛ ولكن فيها حذف».
وعن توالي الإصدارات الورقية والإلكترونية أو الموزعة على بلدان عربية عديدة، يقول طاهر: «علينا أن نفكر دائماً بالنسخة الثانية، والثالثة، و... فالمتأخر يكون أفضل من السابق؛ لأنه يشتمل على الإضافة، والاستدراك، ويعبر عن الجديد. هناك في الوطن العربي موسوعات قطرية تهتم بالشأن المحلي، ويكاد يكون ذلك في كل دولة، في سوريا موسوعة عربية مهمة جداً، وهناك الموسوعة التونسية، والعراقية، والأردنية، والعمانية، وهي كما أسلفت قطرية تتحدث كل موسوعة عن البلد الذي مولها؛ ولكن ما يتمناه المرء هو أن تتحول هذه النسخ إلى نسخ إلكترونية ضمن شبكة خاصة بالبلدان العربية الناطقة بالعربية، وأن يتم تجديدها، وفتحها للمهتمين، والقادرين على الإضافة».
وعن الموسوعة اليمنية تحدث الأستاذ عبدالباري قائلاً: «الموسوعة اليمنية بدأ العمل فيها عام 1989م؛ بدأها الأستاذ أحمد جابر عفيف، وصدرت في مجلدين؛ لكن الطبعة الأولى كانت شطرية، أي اقتصرت على شمال اليمن، أما الطبعة الثانية، وهي أربعة مجلدات، فقد تداركت القصور وأزالت الخطأ غير المقصود، وأصبحت موسوعة يمنية بامتياز، ولكن هذه الموسوعة ماتزال في مراحلها المبكرة، ولاشك أن هناك قدراً من القصور والنقص والأخطاء أيضاً. وللموسوعة هيئة تحرير برئاسة الدكتور حميد العواضي والدكتور حسن العمري والدكتور يوسف محمد عبدالله، ويعملون الآن تمهيداً واستعداداً للطبعة الثالثة التي نأمل أن تتدارك القصور، والأخطاء في العددين الأول والثاني، وهي أول وأهم موسوعة بل الموسوعة اليمنية الوحيدة، وقد غطت كل مجالات الحياة. إنها فرصة حقيقية لدمج النسخة الجديدة بالشبكة العنكبوتية كنسخة تفاعلية بعد توزيعها إلكترونياً. وتتميز الموسوعات، ودوائر المعارف كما يبدو لنا من التسمية بالمعرفة الواسعة، وخليق بالأمة العربية مجتمعة أن يكون لديها موسوعة عالمية تحتوي على دورها الريادي والعالمي في التأصيل للمعرفة». 
أما مؤسس الموسوعة المرحوم الأستاذ أحمد جابر عفيف، وهو أحد أهم رجال التنوير في اليمن كان قد ذكر في مقدمة الموسوعة عن كيفية الجهد الذي بذله، يقول: «تعمقت الفكرة عندي، فسألت القريب والبعيد وعرضت الفكرة على من أعرف ومن لا أعرف، فكانوا بين مثبط، ومشجع إلا أن الإجابة عند الجميع كانت واحدة، أن العمل كبير لا تقوم به إلا موسوعة عامة ولا تنوء بعبء نفقاته إلا دولة».. (الموسوعة ص33)، وفي مكان آخر يقول عفيف: «إذا ً فالتشخيص وحده لا يفي عن العلاج، والعلاج -كما رأيته- يقع على عاتق المثقفين، والمفكرين من أبنائنا، والبداية هي دراسة مجتمعاتنا دراسة متأنية متفحصة؛ لتحديد هويته، ونوازعه، ومحطاته، ومواطن الخير فيه؛ ثم العمل على إيجاد الإدارة العامة والهدف الواحد، وعندها ستجد أن أكثر سلبياتنا التي تقض مضاجعنا اليوم قد تحولت إلى إيجابيات، ومحرضات لمعركة التحضر، والتقدم والتنمية». 
استغناء تدريجي
ألا يذكرنا هذا العصر بعصر بني أمية حين اتسعت رقعة العالم العربي الإسلامي، وتداخلت الثقافات الفارسية والرومانية بالثقافة العربية، لم يكن العرب قبل ذلك العصر يوثقون لإشراقات أيامهم، لأنهم غارقون بصورة واحدة، صورة الإنسان البسيط المتنقل في صحاري ممتدة معبأة بالألفة وممتلئة بصور مريحة، لكنها غير مثيرة بفعل الاعتياد، وكان لهم المثير حين اختلطوا بالشعوب، لحظتها أدركوا القيمة المثلى لتاريخهم عندما بدأوا التدوين، وكان لهم تدوين المعارف التي بدأت في العصر الجاهلي؛ لتمتد إلى ما يقارب قرناً من الزمن. انكفأ الكثيرون على التدوين الذي شكل ما يمكن اليوم تسميته دائرة معارف.. وثقوا فيها للأنساب والأشعار والأحاديث والخطب والقصص والملاحم، ووثقوا للأمثال والمواعظ والأغاني. وثقوا –أيضاً- للطب والفلك والكيمياء وأخبار الملوك والأمراء والخلفاء والحكام.
الباحث عبدالرقيب الغانمي أحد الوجوه التي تركت بصمة واضحة في الفكر، والثقافة يقول: «في تصوري إن ما حصل اليوم من تطور تكنولوجي وتقني في الفضاء السايبروني جعلني أستغني بشكل ملفت عن الكتابة الورقية، سواء كان ذلك في دوائر المعارف والموسوعات أو في الكتب الأخرى، على سبيل المثال هناك (الموسوعة الحديثية) وهي موسوعة تختص بالأحاديث النبوية صممها الألمان، إلا أنني أستطيع العودة إليها بسهولة لأجد فيها كل ما يشبع فضولي إن أردت. وهناك شيء أساسي يمكننا التركيز عليه فيما يخص محرك البحث قوقل، وهو أن كل ما هو في قوقل تم تحميله من كتب ورقية أو من موسوعات ورقية، وقوقل لا يفعل شيئاً سوى أنه يحيلك إلى الرابط، وكل شيء موجود سلفاً في كتب ورقية.
من جهة أخرى هناك موسوعة (ويكييبيديا).. إنها أشهر موسوعة موجودة على الخارطة العنكبوتية؛ ولكنها ليست بسعة الموسوعات الورقية. ما يحصل هو أنني لا أذهب إلى الموسوعات الورقية لأنها ليست في متناول اليد دائماً. أما الموسوعة العائمة فإنني أجدها بسهولة».
وفيما يخص الاستغناء عن النسخ الورقية أضاف الغانمي: «أعتقد أننا مازلنا بحاجة ماسة للنسخ الورقية وبخاصة في المكتبات العامة التي يرتادها عادة بعض الذين يؤجلون استخدام الشبكة الإلكترونية؛ فلا أظن أن مثل ذلك قد يحصل بشكل كامل، ولكن من تجربتي الخاصة كما أسلفت تقلص تعاملي مع الكتاب الورقي كثيراً، وربما الكثير ممن أعرفهم استبدلوا مكاتبهم الورقية بمكتبات صغيرة محمولة في جهاز (اللابتوب)؛ لأن الموسوعة باعتبارها مصدراً للمعلومة يستحيل الاستغناء عنها، وما يمكننا فعله هو الاستغناء عن شكلها فقط؛ فبالله عليك إذا كنت راحلاً من دولة إلى أخرى، ولديك الموسوعة الذهبية المكونة من تسعة مجلدات هل ستفضل حملها في جهازك الشخصي، أم في مجلداتها الورقية؟ بالتأكيد ستأخذ ما خفّ حمله، وغلى ثمنه. إننا حقاً بحاجة إلى التأليف الموسوعي، ولكن طبعها مكلف، وتحويلها إلى كتاب ورقي غير عملي. 
في تقديري إن السؤال اليوم هو كيف يمكننا التشريع لحقوق النشر الإلكتروني؟ وذلك لضرورة استمرار هذا النوع من الإصدارات خصوصاً إذا تساءلنا: كم عدد الأشخاص الذين يمكنهم الاستفادة من الطبعة الورقية؟ وبالمقابل كم عدد الأشخاص الذين يمكنهم الاستفادة من الطبعة الإلكترونية؟. في الغرب هناك على النت الكثير جداً من البحوث العلمية الجادة، وهي معروضة لمن أراد أن يستفيد إلا أن الدخول إلى تفاصيلها غير ميسر إلا بعد تسديد مبلغ مالي محدد سلفاً، وعند الدفع يمكن أخذ النسخة، وعادة ما تكون النسخة محمية من تطفل هاكرز النت بحيث لا يتم إساءة استخدامها، أو العبث بمضمونها».

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق