يبدو أنّ زمان السكوت
عن التحرّش الجنسي الذي تتعرّض له بعض النسوة، و خصوصا الشابات منهنّ في
تونس ، قد ولىّ بغير رجعة. فمن يركب وسائل نقل تونس العموميّة بشكل دوريّ
قد يستغرب للوهلة الأولى من جرأة بعض النساء في التشهير بمن يحاول
ملاصقتهنّ و التحرّش بهنّ مستغلاّ الزحام الشديد و خوفها المألوف من
"الفضيحة". حكاية طالبة التجارة نعيمة بوزيّان 26 سنة مع التحرّش ،هي حكاية
الشجاعة و القدرة على التحوّل من الضحيّة إلى الآخذ بزمام المبادرة و
الفعل.
عبر خطّ المترو عدد 4 الذي يوصلها إلى كليتها كلّ صباح ، تعرّضت نعيمة مرارا إلى من يحاول التحرّش بها إما بالملامسة أو بالدعوة الصريحة إلى "التغيّب عن مقاعد الدراسة وإفساح المجال لجسدها ليأخذ حظه من المتعة" على حدّ إفادتها لإيلاف.
تقول نعيمة:"ألبس ما أشاء ، و أستغلّ نعمة الجمال التي وهبها الله لي في حدود المعقول، لكن لا يمكن السكوت على "قلة الحياء" بعد اليوم ، من يحاول الاقتراب منيّ سيكون مصيره كمصير ذالك الشاب".
في أواخر العام 2008 ، ولما كانت عائدة إلى منزلها عبر المترو السريع بالعاصمة تونس ، تقول نعيمة إنها تعرّضت لأبشع تحرّش في حياتها من أحد الشبّان المنحرفين."كانت رائحة الخمرة التي يبدو أنه شرب منها الكثير تفوح من جسده ، يرمقني بنظرات شرهة و يتفوّه تجاهي بأبشع العبارات و أقذعها مستغلاّ صمتي في الوهلة الأولى و لا مبالاة بقية الركاب" و تضيف:" لا أنكر أنني لست من هواة التشهير بمن يرغبون في التحرّش ، فقد كنت أصبر عليهم و أتجاهلهم باستمرار إلى حين خروجي من زحام هذا المترو اللعين ، لكن ملامستي من أماكن حساسة من جسدي كان خطا أحمر بالنسبة لي ، فضحتُه أمام الملأ وكلت له شتائم ما كنت أجرأ في السابق على التفوّه بها ،إلى أن هرع أعوان الأمن و أشبعوه ضربا وركلا قبل أن يقتادوه إلى مخفر الشرطة وذلك جزاءه الطبيعيّ".
الطالبة نعيمة ليست النموذج الوحيد في تونس للفتاة التي تتمرّد على المُتحرّشين وهم كثر ، و على الرغم من أنّ عقلية الصمت المطبق تجاه هذا الفعل ضلت سائدة طوال فترة طويلة من الزمن ، إلا أنّ نساء تونس بدأن مؤخرا في الوعي بخطورة ما يتعرّضن له فاسحين المجال أمام التصدّي له.
المشرّع التونسي يجرّم التحرّش الجنسيّ ، ففي العام 2004 أقرت تونس قانونا بشأنه تصل العقوبات فيه إلى السجن سنتين، وذلك بغية حماية النساء في أماكن العمل والأماكن العامة.و يعرّف المشرع التحرّش الجنسيّ بـ"كل إمعان في مضايقة الغير بتكرار أقوال أو أفعال أو إشارات، من شأنها أن تنال من كرامته أو تخدش حياءه وذلك بغاية حمله على الاستجابة لرغباته أو رغبات غيره الجنسية أو بممارسة ضغوط عليه من شأنها إضعاف إرادته على التصدي لتلك الرغبات".
كما يعاقب القانون التونسيّ لمدة عام سجنا وغرامة ماليّة قدرها ثلاثة آلاف
دينار مرتكب التحرش الجنسي، ويضاعف العقاب إذا ارتكبت الجريمة ضد طفل أو
غيره من الأشخاص المستهدفين بصفة خاصة، بسبب قصور ذهني أو بدني يعوق تصديهم
للجاني".
السيّدة حوريّة جلاليّ موظفة إدارية (30 سنة) تعرّضت قبل أن تشتري
سيارتها الحالية إلى التحرّش في وسائل النقل العموميّة في عدة مناسبات ،
تقول لإيلاف إنّ "ما نلمسه اليوم من جرأة المرأة التونسية وخاصّة الشابات و
طالبات الجامعة على عدم الإذعان لمن يرغب في التحرّش بهنّ ، لا يمكن أن
يكون نتيجة لسنّ تلك القوانين أو نتيجة ثقافة قانونية كافية ،بل نتيجة
امتعاض بلغ حدّه الأقصى وسط اضمحلال أخلاقيّ لا نظير له يسود المجتمع
التونسي " على حدّ تعبيرها ، و تتابع:" غالبا ما أستمع لصديقاتي زميلاتي
وهنّ يقصصن عليّ مغامراتهنّ مع الشباب المتحرّش ، كنت أشجعهنّ دوما على
التصدّي لهم دون الخشية من الفضيحة ، لأنّ إفساح المجال أمام المنحرف ليفعل
ما يشاء هو الفضيحة بعينها".
سفيان عتيق 25 سنة ، قال إنّ الفتاة التي ترتدي ملابس مغرية و تتحرّش بالرجال لا ينفعها كثيرا الصراخ أو التشهير ، فمن ذا الذي سيصدّق أنها بريئة و لم تكن تسعى إلى شيء ما مستغلة زحام الحافلات وعربات المترو الضيّقة".
و لا يختلف معه جبران الذي قال إنّ التحرّش في وسائل النقل "متعة لا توصف ، خصوصا لمّا يكون الطرف الآخر متجاوبا و لا يميل إلى التشهير ، فغضب الفتاة اليوم يعني محضرا امنيا في مخافر الشرطة أو غرامة مالية".
علم الاجتماع يرى في ظاهرة التحرّش الجنسي داخل المجتمعات العربية ظاهرة مركّبة تفسّر بعدّة عوامل ، ويقول الباحث الاجتماعي محسن المزليني لإيلاف:"لا شكّ أنّ التحرّش ظاهرة تفصح عن نفسها في أكثر من مكان وخاصّة بوسائل النقل، وهي ظاهرة في اعتقادي لا يمكن تفسيرها بالسبب الواحد. فهي كالكثير من الظواهر مركبة ومتعدّدة الأسباب. فالقول بأنّ السبب هو لباس المرأة المثير والمغري هو تفسير الكلي بالجزئي، وقد أظهرت دراسة أجراها المركز المصري لحقوق المرأة أنّ أغلب من تعرّضن لعمليات التحرّش الجنسي هن من المتحجبات. كما أنّ ردّ السبب إلى الإغواء النسويّ أيضا هو من باب الحسّ المشترك ولا يرقى إلى التفسير الموضوعي للظاهرة".
و يرى المزليني إنّ هذه الظاهرة وكيفية تعاطي النساء معها تحتاج إلى دراسة ميدانية صعبة التحقيق لأنّ الموضوع يبقى مسكوتا عنه كون من يرفضن التحرّش و يركنّ إلى التشهير به بقين أقليّة من مجموع من يتعرّضن للتحرّش بشكل يوميّ،إلا أنّه يمكن تقديم الفرضيات التالية:
أولا أنّ الظاهرة تعود إلى وجود حقل مشجع على هذه الممارسة، فتلاصق الأجسام
في وسائل النقل يشجع كل أنماط الانحرافات، كما أنّ صمت من يقع عليه الفعل
خشية الفضيحة يشجع على مزيد انتشار الظاهرة.
ثانيا ارتباك القيم الذي تعيشه المجتمعات العربية بين حياة معاصرة تفرض
أكثر من نمط سلوكي جديد بصرف النظر عن حكمنا عليه بالسلب أو بالإيجاب،
فالقيم التقليدية لم تعد لها نفس القوة الكابحة والضابطة للسلوك، ولم تتأسس
أنماط أخلاقية جديدة تقوم بهذا الدور. لذلك يكاد المرء يحسّ بنوع من
ازدواجية الشخصية وهي منبع لكل الإختلالات السلوكية.
ثالثا البحث عن تأكيد الذات في غير المواضع السّوية فكثيرا ما يكون هناك نوع من التحدّي ليثبت ممارس هذه العملية قدرته على "ترويض" النساء، مع تراجع بيّن بفعل الارتباك لقيم داعمة للبناء الاجتماعي مثل مفاهيم الفتوة وأخلاق الفتوة حيث لم يكن المنحرف يسمح لنفسه - فما بالك لغيره - بالتحرّش خاصّة بالجيران والمعارف لكن الآن وبفعل تحولات القيم اضمحلت هذه القيم وصار الكل فريسة للكل.
وحول استعداد النساء التونسيات اليوم للتشهير من يتحرش بهنّ يرى المزليني أنّ الإطار القانونيّ الذي جرّم التحرّش و عاقب من يقوم به ، لا يمكن أن يفسّر لوحده تصاعد هذه الأصوات الجريئة ، لكنّ نفسية المرأة التونسية التي تحملت مسؤولياتها جنبا إلى جنب مع الرجل في عدة مجالات بعضها كان حكرا على الرجل، و الراغبة في إثبات جدارتها وذاتها ،تفرض عليها الاستعداد للمواجهة أيا كان مصدرها ونظرة المجتمع اليوم قد تتغير من مُحتقر للمرأة التي تعرّضت للتحرش إلى مُحترم لمن تتصدى له.
عبر خطّ المترو عدد 4 الذي يوصلها إلى كليتها كلّ صباح ، تعرّضت نعيمة مرارا إلى من يحاول التحرّش بها إما بالملامسة أو بالدعوة الصريحة إلى "التغيّب عن مقاعد الدراسة وإفساح المجال لجسدها ليأخذ حظه من المتعة" على حدّ إفادتها لإيلاف.
تقول نعيمة:"ألبس ما أشاء ، و أستغلّ نعمة الجمال التي وهبها الله لي في حدود المعقول، لكن لا يمكن السكوت على "قلة الحياء" بعد اليوم ، من يحاول الاقتراب منيّ سيكون مصيره كمصير ذالك الشاب".
في أواخر العام 2008 ، ولما كانت عائدة إلى منزلها عبر المترو السريع بالعاصمة تونس ، تقول نعيمة إنها تعرّضت لأبشع تحرّش في حياتها من أحد الشبّان المنحرفين."كانت رائحة الخمرة التي يبدو أنه شرب منها الكثير تفوح من جسده ، يرمقني بنظرات شرهة و يتفوّه تجاهي بأبشع العبارات و أقذعها مستغلاّ صمتي في الوهلة الأولى و لا مبالاة بقية الركاب" و تضيف:" لا أنكر أنني لست من هواة التشهير بمن يرغبون في التحرّش ، فقد كنت أصبر عليهم و أتجاهلهم باستمرار إلى حين خروجي من زحام هذا المترو اللعين ، لكن ملامستي من أماكن حساسة من جسدي كان خطا أحمر بالنسبة لي ، فضحتُه أمام الملأ وكلت له شتائم ما كنت أجرأ في السابق على التفوّه بها ،إلى أن هرع أعوان الأمن و أشبعوه ضربا وركلا قبل أن يقتادوه إلى مخفر الشرطة وذلك جزاءه الطبيعيّ".
الطالبة نعيمة ليست النموذج الوحيد في تونس للفتاة التي تتمرّد على المُتحرّشين وهم كثر ، و على الرغم من أنّ عقلية الصمت المطبق تجاه هذا الفعل ضلت سائدة طوال فترة طويلة من الزمن ، إلا أنّ نساء تونس بدأن مؤخرا في الوعي بخطورة ما يتعرّضن له فاسحين المجال أمام التصدّي له.
المشرّع التونسي يجرّم التحرّش الجنسيّ ، ففي العام 2004 أقرت تونس قانونا بشأنه تصل العقوبات فيه إلى السجن سنتين، وذلك بغية حماية النساء في أماكن العمل والأماكن العامة.و يعرّف المشرع التحرّش الجنسيّ بـ"كل إمعان في مضايقة الغير بتكرار أقوال أو أفعال أو إشارات، من شأنها أن تنال من كرامته أو تخدش حياءه وذلك بغاية حمله على الاستجابة لرغباته أو رغبات غيره الجنسية أو بممارسة ضغوط عليه من شأنها إضعاف إرادته على التصدي لتلك الرغبات".
سفيان عتيق 25 سنة ، قال إنّ الفتاة التي ترتدي ملابس مغرية و تتحرّش بالرجال لا ينفعها كثيرا الصراخ أو التشهير ، فمن ذا الذي سيصدّق أنها بريئة و لم تكن تسعى إلى شيء ما مستغلة زحام الحافلات وعربات المترو الضيّقة".
و لا يختلف معه جبران الذي قال إنّ التحرّش في وسائل النقل "متعة لا توصف ، خصوصا لمّا يكون الطرف الآخر متجاوبا و لا يميل إلى التشهير ، فغضب الفتاة اليوم يعني محضرا امنيا في مخافر الشرطة أو غرامة مالية".
علم الاجتماع يرى في ظاهرة التحرّش الجنسي داخل المجتمعات العربية ظاهرة مركّبة تفسّر بعدّة عوامل ، ويقول الباحث الاجتماعي محسن المزليني لإيلاف:"لا شكّ أنّ التحرّش ظاهرة تفصح عن نفسها في أكثر من مكان وخاصّة بوسائل النقل، وهي ظاهرة في اعتقادي لا يمكن تفسيرها بالسبب الواحد. فهي كالكثير من الظواهر مركبة ومتعدّدة الأسباب. فالقول بأنّ السبب هو لباس المرأة المثير والمغري هو تفسير الكلي بالجزئي، وقد أظهرت دراسة أجراها المركز المصري لحقوق المرأة أنّ أغلب من تعرّضن لعمليات التحرّش الجنسي هن من المتحجبات. كما أنّ ردّ السبب إلى الإغواء النسويّ أيضا هو من باب الحسّ المشترك ولا يرقى إلى التفسير الموضوعي للظاهرة".
و يرى المزليني إنّ هذه الظاهرة وكيفية تعاطي النساء معها تحتاج إلى دراسة ميدانية صعبة التحقيق لأنّ الموضوع يبقى مسكوتا عنه كون من يرفضن التحرّش و يركنّ إلى التشهير به بقين أقليّة من مجموع من يتعرّضن للتحرّش بشكل يوميّ،إلا أنّه يمكن تقديم الفرضيات التالية:
ثالثا البحث عن تأكيد الذات في غير المواضع السّوية فكثيرا ما يكون هناك نوع من التحدّي ليثبت ممارس هذه العملية قدرته على "ترويض" النساء، مع تراجع بيّن بفعل الارتباك لقيم داعمة للبناء الاجتماعي مثل مفاهيم الفتوة وأخلاق الفتوة حيث لم يكن المنحرف يسمح لنفسه - فما بالك لغيره - بالتحرّش خاصّة بالجيران والمعارف لكن الآن وبفعل تحولات القيم اضمحلت هذه القيم وصار الكل فريسة للكل.
وحول استعداد النساء التونسيات اليوم للتشهير من يتحرش بهنّ يرى المزليني أنّ الإطار القانونيّ الذي جرّم التحرّش و عاقب من يقوم به ، لا يمكن أن يفسّر لوحده تصاعد هذه الأصوات الجريئة ، لكنّ نفسية المرأة التونسية التي تحملت مسؤولياتها جنبا إلى جنب مع الرجل في عدة مجالات بعضها كان حكرا على الرجل، و الراغبة في إثبات جدارتها وذاتها ،تفرض عليها الاستعداد للمواجهة أيا كان مصدرها ونظرة المجتمع اليوم قد تتغير من مُحتقر للمرأة التي تعرّضت للتحرش إلى مُحترم لمن تتصدى له.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق